فصل: فصل في الكبر والعجب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عِبَادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوي الله فالزموها، وأحثكم عَلَى الأعمال الصَّالِحَة فاغتنموها، إن الزمان يطوي بكم مسافة الأعمار لا شك وأنتم راحلون عن هذه الدار فيا معشر الشيوخ ماذَا تنتظرون بعد المشيب وهل بعده إلا الموت فإن الموت قريب إنه لَيْسَ إلي البقاء من سبيل فماذَا تزودتم للرحيل ويا معشر الشباب أنفقتم غرر الأعمار عِنْدَ المذياع والكرة ونحو ذَلِكَ مِمَّا يصدكم عن ذكر الله وعن الصَّلاة ويا معشر التجار لَقَدْ ضاعت أعماركم فِي ألووَكم ربح فلان وَكم بيع البيت الفلاني والأرض الفلانية وخذ هذه الجريدة وأعطني الأخري إلا صرفتم بعض الوَقْت إلي المسابقة إلي غرف الْجَنَّة وأراضيها وأنفقتم بعض ما وهبكم الله من المكاسب إلي ما يرضي الله من تفقَدْ الفقراء الَّذِينَ لَيْسَ لّهُمْ موارد لا قليلة ولا كثيرة ممن يستعينون بِهَا عَلَى طاعة الله ومن مساجد تحتاج إلي ترميم أو فرش وإلي إنشاء مساجد عِنْدَ من لَيْسَ عندهم شَيْء منها أو إلي طباعة مصاحف طباعة جيدة فتوزعوها عَلَى التالين للقرآن آناء الليل والنَّهَارَ أو طبع كتب دينية فيها تقوية للشريعة ونشر لمحاسن الإسلام ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب وابن مفلح وابن كثير والموفق والمجد والشَّيْخ المجدد الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب ونحوهم من العلماء العاملين بعلمهم المصلحين المخلصين الَّذِينَ لا تأخذهم فِي الله لومة لائم نسأل الله أن ييسر لنا فِي هذَا الزمان أمثالهم لنصر دينه إنه القادر عَلَى ذلك.
نَصَحْتُكَ لاَ تَصْحَبْ سِوَى كُلّ فَاضِلٍ ** كَرِيْمِ السَّجَايَا بِالتَّعَفُّفِ وَالظَّرْف

وَلاَ تَعْتَمِدْ غَيْرَ الكِرَامِ فَوَاحِدٌ ** مِنَ النَّاسِ إَنْ حَصَّلْتَ خَيْرٌ مِنَ الألف

الْمَالُ يَذْهَبُ حِلَّهُ وَحَرَامَهُ ** طُرّاً وَتَبْقَى فِي غَدٍ آثَامَهُ

لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقِ لإلاهِهِ ** حَتَى يَطِيبُ شَرَابُهُ وطَعَامُهُ

وَيَطِيبُ مَا يَحْوِي وَيَكْسِبُ كَفُّهُ ** وَيَكُوْنُ فِي حُسْنِ الْحَدِيثِ كَلاَمُهُ

نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عن رَبِّهِ ** فعَلَى النَّبِيِّ صَلاَتُهُ وَسَلاَمُهُ

اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وطهر مكسبنا من الربا وألسننا من الكذب ووفقنا لمصالحنا واعصمنا عن ذنوبنا وقبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

.فصل في الكبر والعجب:

اعْلم وفقنا وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ: أن مِمَّا يتأكد تحريمه واجتنابه فِي رمضان وغيره الكبر والإعجاب لأنهما يسلبان الفضائل ويكسبان الرذائل ولَيْسَ لمن استولينا عَلَيْهِ قبول النصح ولا قبول التأديب لأن المتكبر يعتقَدْ فِي نَفْسه أنه جليل عَظِيم متعال عن رتبة المتعلمين والكبر فِي اللغة العزة والعظمة ومثله الكبرياء وقَدْ فسر صلى الله عليه وسلم الكبر بأنه بطر الحق وغمط النَّاس والكبر والعجب من الصفات النفسية المرذولة التي كثيراً ما تثير الْغَضَب والحقد وتورث العداوة والبغضاء وتورث الاحتقار والازدراء بِالنَّاسِ واغتيابهم ويجافِي بين الصدق وكظم الغيظ وقبول النصح ويعمي المرء عن عيوبه ويحول بينه وبين العلم والانقياد للحق.
والكبر نوعان: أحدهما التكبر عَلَى الحق وَهُوَ رده ودفعه وعدم قبوله وَهُوَ عَالم به سواء كَانَ من حقوق الله أو من حقوق عباده فمعني بطر الحق رده وجحده وَهُوَ عَالم به فكل من رد الحق فإنه مستكبر عنهُ بحسب ما رد من الحق ومعني غمط النَّاس احتقارهم وتنقصيهم وَذَلِكَ ناشَيْء عن عجب الإنسان بنفسه وتعاظمه عَلَيْهمْ فالعجب بالنفس يحمل عَلَى التكبر عَلَى الخلق واحتقارهم والاستهزاء بِهُمْ وتنقيصهم بقوله أنه ممتاز عنهُ بما سما به فِي نظر نَفْسه وإذن يري ذَلِكَ الغَيْر فِي درجة منحطة عن درجته فيعتقد حينئذ أن مستواه فوق مستوي غيره وَذَلِكَ هُوَ الكبر بعينه فالعجب عنهُ نشأ الكبر وعَلَى أصله تفرع.
وللكبر أسباب كثيرة فقَدْ تَكُون عن صفة كمال كالعلم والنسب والجاه والسُّلْطَان وَرُبَّمَا نشأ عن غرور ووهم بحيث يعتقَدْ أنه أكمل من غيره خطأ وجهلاً وهَذَا برهان عَلَى نقص عقله ولذا يَقُولُ مُحَمَّد بن عَلَى الباقر ما دخل قلب امرءٍ شَيْء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخل من ذَلِكَ قل أو كثر.
فإن كَانَ الكبر ناشئاً عن العلم كَانَ صاحبه مثالاً سيئاً وقدوة رديئة، خصوصاً إِذَا دفعه الكبر إلي صفة ذميمة كالحسد والحقد، أو أفضي به إلي ارتكاب مظلمة من المظالم بيده أو لِسَانه، فإن ضرر هَذَا لا يقدر، لأن النَّاس يقتدون بالعلماء فِي أقوالهم وأفعالهم، فيستسهلون عِنْدَ ذَلِكَ ارتكاب الجرائم، ويستبيحون الاتصاف بالصفات الذميمة، وفِي هذَا شرٌّ عَظِيم، وأيضاً فإن العَالم المتكبر ينصرف النَّاس عنه وينفضون من حوله، فلا ينتفع بعلمه إلا من يوافقه عَلَى هواه فلا يرده عن خطأ، ولا يشير عَلَيْهِ بحق ولا يزاحمه فِي غرض ومثل هَذَا لا فائدة من تعليمه لأنه ناقص النفس ضعيف الإرادة ومن كَانَ هَذَا شأنه فإن علمه وبال عليه.
أما العلم النافع فهو الَّذِي يرَبِّي الأنفس، ويطهرها من الصفات الرديئة، ويعرف الْعَبْد ربه ونفسه وخطر أمره، وهَذَا يورث الخشية والتواضع، فيكون صاحبه مثإلا حسناً فِي النَّاس، وقدوة صَالِحَة فِي الأقوال والأفعال.
وإن كَانَ الكبر ناشئاً عَن النسب فإنه ربما يكون سبباً للطعَن فِي ذَلِكَ النسب، وحمل النَّاس عَلَى اعتقاد أنه نسب رديء العنصر، خسيس الأصل، فإن النسب الشريف هُوَ الَّذِي يترتب عَلَيْهِ آثار صَالِحَة تدل عَلَى رفعته وكرمه، أما من يتكبر ويظلم ويؤذي عِبَادَ اللهِ ويحتقرهم فإنه لا يكون من عنصر طيب، ولا من أصل كريم غالباً، وقَدْ يتهم النَّاس من يفعل ذَلِكَ بأنه ولد زنا، وَذَلِكَ أن الله وصف النمام والفاجر والمناع للخَيْر بالوصف الذميم كما تقدم وَذَلِكَ لأن الأعمال الفاجرة تتبع خبث المني غالباً، ما لم ييسر الله لولد الزنا بيئة صَالِحَة يترَبِّي فيها وينزع من نَفْسه تلك الصفات الرديئة التي ورثها من أصله واكتسبهَا من والديه.
وإن كَانَ الكبر ناشئاً عَن الجاه والسُّلْطَان فإنه غالباً يفضي إلي شر أنواع الظلم وانتهاك المحارم من حقوق الله وحقوق خلقه، فما ترتب عَلَيْهِ مظلمة أو ضياع حق فهو الكبر الضار.
وأما العزة التي ينشأ عنهَا ما ينفع النَّاس، وما يحفظ كرامة المرء وعدالته ومكانته، مثل ترفع الحاكم عَن مخالطة العوام ومجالستهم ومجاملتهم بما يسقط هيبته أو يطعمهم فِي قضائه أو يسهل لهُمْ الإخلال بما يقتضيه الشرع، فإن مثل هَذَا لا يعد تكبراً لأنه إِذَا أهمله الإنسان لم يكن جديراً بالحكم إنما الكبر الممنوع هُوَ أن لا يبالي بِهمْ فلا يسمَعَ شكوي ضعيفهم ولا يسمح لَهُ بالدنو منه ليعبر عن مظالمه، أو يحقد عَلَى من توسع فِي الدفاع عن نَفْسه بما لا يرضيه، أو أعرض عن سماع النَّصِيحَة واستكبر عن الْعَمَل بالحق، فإنه فِي هذه الحال يكون متكبراً مذموماً ممقوتاً.
لِكُلِّ بَنِي الدُّنْيَا مُرَادٌ وَمَقْصَدٌ ** وَإِنَّ مُرَادِي صِحَّةٌ وَفَرَاغُ

لأَبْلُغَ فِي عِلْمِ الشَّرِيْعَةِ مَبْلَغاً ** يَكُونُ بِهِ لِي فِي الجِنَانِ بَلاَغُ

ففِي مِثْلَ هَذَا فَلْيُنَافِسْ أُولِي النُّهَى ** وَحَسْبِي مِنَ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بَلاَغُ

فَمَا الفَوْزُ إلا فِي نَعِيْمٍ مُؤَبَّدٍ ** بِهِ العَيْشُ رَغْدٌ وَالشَّرَابُ يُسِاغُ

اللَّهُمَّ إنَا نسألك العفو والعافية فِي ديننا ودنيانَا وأهلنا وأموالنا ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.

.موعظة:

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ توعد اللهُ عباده الَّذِينَ يخالفون أمره ويعرضون عن مراقبته وينصرفون عن عبادته وذكره ويجترؤون عَلَى معاصيه بشديد غضبه وعَظِيم سخطه وحذرهم بأسه وانتقامه فما بال المُسْلِمِيْنَ بعد القرون الأولي ودخولهم فِي هذه الأزمان عمدوا إلي محارم الله فارتكبوها ومنهياته فاستباحوها ومأموراته فاجتنبوها ونبذوها وقطعوا الأسباب بينهم وبين خالقهم ورازقهم وعادوا بمر الشكوي من تغَيْر الأحوال وانتزاع البركة من الأرزاق والآجال ولَيْسَ الغريب أن تذهب البركة من أرزاق العصاة وأموالهم فإن الله جَلَّ وَعَلا يغار عَلَى أوامره أن تجتنب ومحارمه أن ترتكب عِبَادَ اللهِ إن المحافظة عَلَى أوامره التي أمركم بِهَا فِي كتابه وعَلَى لسان نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بمنزلة العهد والميثاق بينكم وبينه تعالى أن يحوطكم برحمته ويسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وأن يكون معكمْ بالعون والتَّوْفِيق فإِذَا حاربتموه بارتكاب معاصيه وإهمال أوامره فقَدْ حاربتم بديع السماوات والأرض ذا القوة المتين ولستم بمعجزيه أن يرسل عليكم عذاباً فِي الدُّنْيَا ولعذاب الآخرة أشد وأبقي عِبَادَ اللهِ اتقوا الله وراقبوه فِي سركم وجهركمْ وإياكمْ أن تظنوا أن الله يهمل المسيء فلا يجازيه ولا يحاسبه عَلَى جرمه وذنبه الَّذِي اقترفه ومن ظن ذَلِكَ كَانَ من الَّذِينَ يخادعون الله والَّذِينَ آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون يا عِبَادَ اللهِ: قَدْ كَانَ قبلكم من الأمم من اصطفاهم الله عَلَى علم عَلَى العالمين وآتاهم من الآيات ما فِيه بلاغ للعابدين وأسبغ عَلَيْهم نعمه ظاهرة وباطنة فما رعوها حق رعايتها وقَالُوا نَحْنُ أبناء الله وأحباؤه فَلَمَّا أفسدوا فِي الأرض لم تغن عنهم النذر شيئاً وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وفِي الْحَدِيث إن الله ليملي للظَالمِ فإِذَا أخذه لم يفلته.
نَامَتْ جُفُونُكَ وَالمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ ** يَدْعُو عَلَيْكَ وَعْيُنُ اللِه لم تَنَم

آخر:
وَمَا مِنْ يَدٍ إلا يَدُ اللهِ فَوقَهَا ** وَلاَ ظَالِمٌ إلا سَيُبْلَى بِظَالِمِ

آخر:
خَفِ اللهَ فِي ظُلْمِ الوَرَى واحْذَرَنَّهُ ** وَخَفْ يَوْمَ عَضَ الظَالِمِونَ عَلَى اليَدِ

وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ عن ذَاكَ غَافِلاً ** وَلَكِنّهُ يُمْلِي لِمَنْ شَاءَ إِلى الغَد

وَلاَ تَغْتَررْ بِالحِلْمِ عن ظُلْمِ ظَالِمٍ ** سَيَأخُذُهُ أَخْذاً وَبِيْلاً وعن يَد

آخر:
إِذَا المَرْءُ أحْمَى نَفْسَه كُلَّ شَهْوَةٍ ** لِصِحَّةِ أيَّامٍ تَبِيْدُ وَتَنْفَدُ

فَمَا بَالُهُ لاَ يَحْتَمِي عن حَرَامِهَا ** لِصِحَّةِ مَا يَبْقَى لَهُ وَيُخَلَّدُ

اللَّهُمَّ ثبتنا عَلَى نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الحَسْرَة والندامة يوم القيامة وخفف عنا ثقل الأوزار، وارزقنا عيشة الأبْرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

.شر أنواع الكبر: الكبر على الله وعلى رسله:

قال: والكبر أنواع وأعظم أنواع الكبر عَلَى الله وعَلَى رسله، وهَذَا شر أنواع الكبر، لأن الإنسان ضعيف المخلوق من ماء مهين، الَّذِي يصرعه أضعف الحيوانات إِذَا سلطه الله عَلَيْهِ لا يليق به ولا يحل لَهُ أن يتكبر عَلَى من خلقه وأوجده ومنه يستمد بقاءه ويحتاج إليه فِي كُلّ لحظة وفِي كُل حركة وسكون.
ومن جهل قدر ربه فهو من بهيمة الأنعام أو أضل، كما أخبر الله عمن استكبروا عَلَيْهِ وعَلَى رسله، وكيف يجهل الإنسان قدر إلههِ القادر القاهر الَّذِي أبدع العَالَم عَلَى أحسن إحكام وأدق تكوين وله سُبْحَانَهُ فِي كُلّ جزء من خلقه شاهد واضح الدلالة، وحجة ظاهرة البيان، تدل عَلَى أنه هُوَ ذَلِكَ الصانع الَّذِي: {يْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فمن تكبر عَلَى الله فلم يؤمن بذاته وصفاته أو استكبر عن عبادته فإنه سيري نتيجة كبريائه ذلاً وصغاراً وعذاباً أليماً يوم البعث والنشور، فضلاً عما يصيب كثيراً من المتكبرين عن عبادة الله من الانتقام الدنيوي، كما وقع للنمرود وفرعون وغيرهم من المتكبرين.
وأما المتكبر عَلَى رسل الله فهو كالمتكبر عَلَى الله فِي نتيجته فإن جزاءه الخلود فِي نار جهنم، لأنَّهُمْ إنما جاءوا بِتَوْحِيدِ اللهِ وتنزيهه عن كُلّ ما لا يليق به، وهداية النَّاس إلي سبيل السعادة، فمن استكبر عَلَيْهمْ ولم يؤمن بِهُمْ فقَدْ كفر بربه وخسر خسرانَاً مبيناً.
ولَقَدْ قال المستكبرون من قريش: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يريدون الوليد بن المغيرة من مَكَّة وأبا مسعود الثقفِي من أَهْل الطائف، دفعهم الكبر إلي أن يطلبوا من هُوَ عندهم وفِي زعمهم أعظم رئاسة من المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم لأنه غلام يتيم وإن كَانَ من أطهر أصلابهم وأشرف أنسابهم فرد الله عَلَيْهمْ بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}، ذَلِكَ أنَّهُمْ جهلة متهورون غلاظ القُلُوب حسدة لم يقدروا الله الَّذِي خلقهم والَّذِينَ من قبلهم، الحكيم الَّذِي يضع الأشْيَاءِ مواضعها وينزل الأمور منازلها.
وروي مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَحْنُ ستة نفر فَقَالَ المشركون: اطرد هؤلاء عنكَ فَإنَّهُمْ وإنَّهُمْ، قال فكنت أَنَا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، قال فوقع فِي نفس النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من ذَلِكَ ما شَاءَ الله فحدث به نَفْسه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وروي عن خباب بن الأرت –فِي سبب نزول هذه الآية– قال: جَاءَ الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قاعداً مَعَ بلال وعمار وصهيب وخباب، فِي ناس من الضعفاء من الْمُؤْمِنِين، فَلَمَّا رأوهم حقروهم، فخلوا به فَقَالُوا: إنَا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به الْعَرَب فضلنا، فإن وفود الْعَرَب تأتيك، فنستحي أن يرانَا الْعَرَب قعوداً مَعَ هذه الأعبد فإِذَا نَحْنُ جئناك فأقمهم عنا، فإِذَا نَحْنُ فرغنا فاقعدهم إن شئت، قال: نعم، قَالُوا: فاكتب لنا عَلَيْكَ كتاباً، فدعا بالصحيفة، ليكتب لهُمْ، ودعا علياً ليكتب، فَلَمَّا أراد ذَلِكَ ونَحْنُ قعود فِي ناحية، إذ نزل جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ثُمَّ ذكر الأقرع وصاحبه فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
ثُمَّ ذكرنا فَقَالَ: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فرمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة ودعانَا فأتيناه وَهُوَ يَقُولُ: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} فدنونا منه حتي وضعنا ركبنا عِنْدَ ركبتيه فكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإِذَا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَقُولُ لا تعد عيناك عنهم تجالس الأشراف: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أما الَّذِي أغفل قَلْبه عن الذكر فهو عيينة بن حصن والأقرع، وأما فرطاً فهلاكاً، فإِذَا بلغنا الساعة التي كَانَ يقوم فيها قمنا وتركناه حتي يقوم، وإلا صبر أبداً حتي نقوم، رواه ابن أبي شيبة ورواه أبو نعيم.
ومعني هَذَا أن هذين الرجلين حملهما الكبر والأنفة عَلَى احتقار بعض هؤلاء الْمُؤْمِنِين لضعفهم من جهة الْمَال والنسب فطلبا من النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن يختصهم بمجلس لا يشمل هؤلاء الضعفاء وفِي رواية أنَّهُمْ يؤمنون به إن فعل ذَلِكَ وكَانَ صلى الله عليه وسلم حريصاً عَلَى إيمان النَّاس، كما ذكر الله عنهُ بقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
وَقَالَ: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وَقَالَ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} وَقَالَ: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ورأي أن هَذَا لا يضر أصحابه خصوصاً بعد أن يدخل هذان معهما، فإن الدين كفيل بإذن الله فِي تهذيبهما فأجابهما إلي طلبهما.
الدِّيْنُ رُوْحٌ بِهِ تَحْيَا الأنَامُ كَمَا ** دَمَارُهَا أَبَداً بِالكُفْرِ يَنْحَتِمُ

وَالكُفْرُ شَيْنٌ بِهِ الإصْلاَحُ مُنْعَدِمٌ ** وَالدِّيْنٌ زَيْنٌ بِهِ الأحوال تَنْتَظِمُ

ولكن الله تعالى الَّذِي شرع الدين وَهُوَ الَّذِي فوق عباده جميعاً أبي عَلَى نبيه ذَلِكَ وأعلمه أنه لا يبالي بالمتكبرين، ولا يحفل بدخولهم فِي دينه، ما دامت أنفسهم متأثرة بالعزة الكاذبة واحتقار الْمُؤْمِنِين لأن دينه تعالى قَدْ جَاءَ بالِقَضَاءِ عَلَى هذه الرذيلة ولم يجعل الاحترام وعلو الهمة والمنزلة ورفعة القدر مرتبطاً برفعة النسب أو كثرة الْمَال أو الجاه والسُّلْطَان، وإنما جعل ذَلِكَ مرتبطاً بالعلم النافع وتقوي الله، ولذا قال لنبيه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} وَقَالَ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية فصدع صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى وبلغ ما أوحي إليه.
رَغِبْتُ عن الدُّنْيَا لِعِلْمِيَ أَنَّهَا ** مَحَلُّ حَيَاةِ المَرْءِ فِيه إبَلاَغُ

وقَدْ لاَحَ فِي فَوْدَيَّ شَيْبٌ عَلَى الرَّدَى ** دَلِيْلٌ وفِيه مَا أَرَدْتُ بَلاَغُ

وَأَمَّلْتُ مِنْ مَوْلاَيَ نَظْرَةَ رَحْمَةٍ ** يَكُوْنُ بِهَا مِنِّي إِليْهِ بَلاَغُ

فَأحْظَى إِذَا الأبْرَارُ قِيْلَ لَهُمْ غَداً ** هَلِمُّوا إِلى دَارِ النَّعِيْمِ فَرَاغُوا

رَأَيْتُ بَنَيْها مَا رَمَتْهُمُ سِهَامُهَا ** فَطَاشَتْ وَلاَ حُمَّ الحِمَامُ فَرَاغُوا

فَعُجِبْتُ إِلى دَارِ البَقَاءِ بِهِمَّتِي ** فَعِنْدِي عنهَا رَاحَةٌ وَفَرَاغُ

اللَّهُمَّ مكن محبة القرآن فِي قلوبنا ووفقنا لتلاوته آناء الليل والنَّهَارَ اللَّهُمَّ وارزقنا الْعَمَل به والدعوة إليه واجعله حجة لنا وقائداً لنا إلي جنتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.

.موعظة:

عِبَادَ اللهِ: إنما يسعد المسلمون أن يتبعوا الحق ويدعوا إليه ولا تأخذهم فِي الله لومة لائم ويقبلوا النَّصِيحَة ممن ينصحهم ويعملوا بِهَا راضية نفوسهم شاكرة ألسنتهم غَيْرَ مستكبرين ولا متعنتين ولم يعمهم الهَوَى عن اتباع الحق إذ ذاك تكمل لهُمْ السعادة ويتم لهُمْ النَّعِيم وقَدْ فشا فِي النَّاس داء الكبر واستحكَم ولا أقصد بذَلِكَ من الكبر الخيلاء والتبختر فقط وإنما أقصد كبر المتكبر عن قبول نصح الناصح وإرشاد المشترشد فإن الأولَ وإن كان شراً لكن الثاني شر منه فإن المرء إذا لم يقبل نصيحة الناصح كَانَ راضياً عن نَفْسه ومتي رضي عن نَفْسه عميت عن عيوبِهَا فلا يؤثر فيها نصح ولا ينفع معها إرشاد لأن الغرور متحكم فيها والشهوات محيطة بِهَا فإِذَا أراد الله بعبده خيراً بصره بعيوب نَفْسه فأصلحها واتهمها دائماً بالنقص وطالبِهَا بالكمال حتي تلتحق بالنُّفُوس الزكية والأرواح الطاهرة وهكَذَا كَانَ سلفنا الصالح فكَانَ أمير الْمُؤْمِنِين عُمَرُ بنُ الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقُولُ: رحم الله امرأً أهدي إلي عيوب نفسي وكَانُوا إِذَا أرشدهم أخٌ من إخوأنهمْ إلي عيب فِي نفوسهم فرحوا بهَذَا التنبيه وطهروا نفوسهم منه وشكروا من نصحهم وجعلوا نصيحته منة لَهُ عَلَيْهمْ ولم يأنفوا أو لم يستكبروا لأنَّهُمْ يتهمون نفوسهم ويرونها ناقصة ويسعون إلي رفعتها إلي أوج الكمال وبهَذَا بلغوا ما بلغوا ونالوا ما نالوا، يا عِبَادَ اللهِ: كيف نرضي عن نُفُوسنا والله جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: {إن النفس لأمارة بالسوء} عِبَادَ اللهِ: من منا بلغ معشار ما بلغه عمر فِي كمال نَفْسه وقوة إيمانه وشدة يقينه وقَدْ كَانَ يَقُولُ لأصحابه: من رأي منكم فِيَّ اعوجاجاً فليقومه هكَذَا كَانَ ظنه رَضِيَ اللهُ عنهُ بنفسه عَلَى جلالة قدره وعلو منزلته فِي دينه وكل ما كَانَ أكبر كَانَ أقل إعجاباً بنفسه وأكثر مطالبة لها بسلوك طَرِيق الحق.
نَالُوا بِذَلِكَ فَرْحَةً وَسُرُوراً ** وَسَعَوْا فَأَصْبَحَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورَا

قَوْمٌ أَقَامُوْا لِلإِلَهِ نُفُوسَهُمْ ** فَكَسَا وُجُوْهَهُمُ الوَسِيمَةَ نُوْرَا

تَرَكُوْا النَّعِيْمَ وَطَلَّقُوا لَذَّاتِهِمْ ** زُهْداً فَعَوَّضَّهُمْ بِذَاكَ سُرُوْرَا

قَامُوا يُنَاجُوْنَ الإلَهَ بِأّدْمُعٍ ** تَجْريْ فَتَحْكِي لُؤْلُؤاً مَنْثُورَا

سَتَروْا وُجُوهَهُمُوْا بِأَسْتَارِ الدُّجَى ** لَيْلاً فَأَضْحَتْ فِي النَّهَارِ بُدُوْرَا

عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا فَجَادُوْا بالَّذِي ** وَجَدُوْا فَأَضْحَتْ حَظُّهُمْ مَوْفُورَا

وإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ أَنِيْنَهُمْ ** وَشَهِدْتَ وَجْداً مِنْهُمُوْا وَزَفْيِرَا

تَعِبُوْا قَلِيلاً فِي رِضَا مَحْبُوبِهِمْ ** فَأَرَاحَهُمْ يَوْمَ المَعَادِ كَثِيْرَا

صَبَرُوا عَلَى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوْا ** يَوْمَ القِيَامَةِ جَنَّةً وَحَرِّيْرَا

اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.